بحث عن موضوع علم الآثار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بحث عن موضوع علم الآثار

    المؤلف
    ديفيد فيلبسون، أمين متحف الآثار والأنثروبولجيا بجامعة كمبردج، ومحاضر في علم ما قبل التاريخ. سافر كثيراً في القارة الأفريقية وكتب كثيراً في موضوع علم الآثار الأفريقية. قبل نشره لهذا الكتاب عن علم الآثار الأفريقية في طبعته الأولى عام 1985 قام فيلبسون بنشر كتاب عن ما قبل التاريخ في تنزانيا الشرقية (1976)، وآخر عن المرحلة المتأخرة لما قبل تاريخ شرق أفريقيا وجنوبها (1977). وعاد عام 1993 لنشر الطبعة الثانية من كتاب علم الآثار الأفريقية، وأعيدت طباعة هذه النشرة الثانية في عام 1994، وهي التي يسعدنا أن نقوم بترجمتها إلى العربية. ولفيلبسون الآن كتاباً جديداً تحت الطبع عن عراقة الزراعة والرعي في إثيوبيا.

    ظل عطاء فيلبسون مستمراً من خلال سلسلة من الأبحاث عن علم الآثار الأفريقية في الحوليات والدوريات والمجلات المتخصصة يجدها القارئ في الببليوغرافيا الموضحة في نهاية هذا الكتاب.
    نقدم هنا التمهيد الذى كتبه المؤلف لهذا السفر الهام.

    اكتشاف ماضي أفريقيا
    يحاول هذا الكتاب تقديم ملخص وتفسير معاصر للبينة الآثارية الخاصة ببني الإنسان السابقين في أفريقيا منذ ظهورهم الأول حتى الوقت الذي صار فيه التاريخ المكتوب المصدر الأساسي للمعلومات. تغطى هذه الفترة كرونولوجياً كل التاريخ عدا جزئية صغيرة من الوقت الذي احتوت فيه الأرض سكان من بني الإنسان. يبدو محتملاً الآن أن أفريقيا هي البقعة التي نشأ فيها الإنسان لأول مرة منذ تاريخ يتجاوز قليلاً الثلاث ملايين من السنين. في الجانب الآخر من القياس الزمني فان أقدم السجلات المكتوبة المرتبطة بأفريقيا هي تلك التي خلفها المصريون القدماء بداية من خمس ألف سنة مضت. بالنسبة للأجزاء الأخرى من القارة، بخاصة المناطق الداخلية إلى الجنوب من خط الاستواء، فلا وجود لسجلات من هذا القبيل إلا تلك التي لا يتجاوز عمرها قرن أو قرنين من الزمان.

    تُعرف الفترة الزمنية السابقة للتاريخ المكتوب اصطلاحاً بمرحلة ما قبل التاريخ. لا يلاءم هذا المصطلح أفريقيا بصورة كلية وذلك لعدة أسباب. أولاً فقد كانت هناك فترات طويلة، بخاصة في الجزء الشمالي للقارة، توفرت فيها سجلات مكتوبة لكنها ما كانت تقدم معلومات كافية عن الكثير من جوانب الحياة المعاصرة. كذلك هنالك الكثير من الحالات التي تكون فيها السجلات المكتوبة المتوفرة قد تم وضعها من جانب أجانب وهي كثيراً ما تعطى سرداً غير مكتمل لأحداث لم يدركها المؤلفون بصورة صحيحة. مثل هذه الظروف تواجه علماء آثار ما قبل التاريخ في الكثير من مناطق العالم، لكنها تؤدي إلى بروز إشكالات محددة في بعض أجزاء أفريقيا نسبة لضحالة العمق الزمني للتعليم المحلي. من ثم لا بدَّ من تأسيس مدخل مختلف لتلك الجوانب من الثقافة الأفريقية وهو مدخل يتوجب فيه أن يحل محل الأدب المكتوب في المناطق الأخرى. يشمل ذلك التحدار الشفهي المتطور والذي يحتفظ، في العديد من المجتمعات، بالحكمة المتراكمة لدى الناس بما في ذلك تفصيلات تاريخهم السابق. مرة أخرى تقوم اللغة نفسها بدور كبير في تحديد الإحساس بانتماء الناس أو الفرد. وحيث انه لا تتوفر نماذج للغات القديمة فان الكثير يمكن إدراكه عن طبيعة العلاقات المتداخلة للسكان القدماء من خلال دراسة الأشكال اللغوية الحالية وتوزيعها. ستتم في وقت لاحق مناقشة مناهج تفسير تلك المصادر المعلوماتية عن الماضي الأفريقي، كما وستجرى محاولة ربط بيناتها بتلك المستقاة من علم الآثار.

    نسبة للامتداد الزمني الهائل لمرحلة ما قبل التاريخ الأفريقي، وللتنوع الكبير الذي ميز المجتمعات الإنسانية التي تمظهرت في القارة، يصبح جلياً ضرورة استخدام مناهج متنوعة لشرح ماضي أفريقيا. يمكن استخدام الدراسات في مجال اللسانيات والتحدار الشفهي، بالطبع، بالنسبة لفترات حديثة نسبياً. إلا أنه وبالنسبة للجزء الأعظم من الفترة الزمنية التي تمثل مثار اهتمام هذا الكتاب فإن علم الآثار يؤلف المصدر الرئيس لمعلوماتنا الأساسية، بل وقد يكون، في بعض الحالات، المصدر الأوحد الدال على النشاطات الإنسانية.

    علم الآثار الأفريقية
    تقدم المعطيات الآثارية صورة عن الماضي تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي يمكن إعادة تركيبها من المصادر المكتوبة أو الشفهية، مع أن المصادر الآثارية قد تصبح، في حالات، متممة للنوعين الآخرين من المصادر. يستحيل على عالم الآثار الذي يقوم بدراسة الأميين من الناس إدراك أسماء الأفراد أو شخصياتهم. انه عادة ما يجد صعوبة في التوصل إلى أكثر من استنتاجات عامة عن الأنظمة الاجتماعية والأوضاع السياسية. لكنه، من جانب ثان، فان تفسير عالم الآثار للمهارات التقنية أو للنشاطات الاقتصادية، بخاصة الصيد والزراعة أو رعي الحيوانات المدجنة، يكون أكثر اكتمالاً وأكثر موثوقية من تلك التي يمكن الحصول عليها عبر الأشكال الأخرى للبحث. لهذا السبب فان علم الآثار يمكنه أن يقدم إسهاماً معتبراً لا بالنسبة لدراسة ما قبل التاريخ فحسب وإنما لكونه يمهد الطريق أمامنا لفهم أكثر عمقاً للمجتمعات الأكثر حداثة بما في ذلك المجتمعات التي تتوفر عنها سجلات مكتوبة غزيرة بالنسبة للدارسين لأفريقيا فإن معطيات البحث الآثاري تمثل مصدراً رئيساً للمعلومات عن ماضي القارة، بل أنها تمثل المصدر الأساسي بالنسبة للجزء الأعظم من مرحلة ما قبل التاريخ، إلى جانب كونها تسهم بقدر كبير في إدراكنا للمراحل الأكثر حداثة. في أفريقيا فإن الأعماق الزمنية الضحلة التي عادة ما يمكن تطبيق البحوث الآثارية عليها، توسع بقدر كبير منظورنا التاريخي للاتجاهات والأحداث المعاصرة، ويمكن بحق الادعاء بان فهمنا للإشكالات الضاغطة والحيوية مثل التصحر والقبلية يتم تعزيزه عبر نتائج البحث الآثاري، مع معاني ضمنية جلية بالنسبة للتطور الاقتصادي والسياسي. إلا أن علم الآثار الأفريقية وثيق الصلة بما هو أبعد إلى الخارج من حدود قارته نفسها. يجد علماء الآثار وعلماء آثار ما قبل التاريخ في المناطق الأخرى الكثير الذي لا بد لهم من تعلمه من السجل الآثاري الأفريقي، ليس فقط من حيث ما يحتويه من معلومات لا نظير لها عن أقدم مراحل تطور الإنسان وإنما كذلك من حيث الجوانب المنهجية. ولأن معظم أفريقيا قد تعرض لتغيرات بيئية أقل حجماً نسبياً مقارنة بما شهدته المناطق المتجمدة سابقاً في اورآسيا وأمريكا الشمالية، فقد توفرت في أفريقيا معطيات هائلة من شأنها أن تساعد في تفسير النشاطات الإعاشية ما قبل التاريخية. إلى جانب ذلك توفر أفريقيا إمكانيات رائعة لمجابهة شهادة علم الآثار بشهادة الدراسات في مجال علم اللسانيات والتاريخ الشفهي، ولتفسير معنى الفن الصخري على ضوء أنظمة المعتقدات السائدة حالياً كما سنناقشه لاحقاً.

    تطورت دراسة علم الآثار الأفريقية باتجاهين رئيسين. فالمدنيات التي عرفت الكتابة في مصر وشمال أفريقيا تمت دراستها عبر طرق متبدلة على مدى مائتي عام، في حين أن ما قبل التاريخ في المناطق الأبعد إلى الجنوب وجد اهتماماً جاداً لأول مرة في جنوب أفريقيا بنهاية القرن التاسع عشر. ظل هذان المجالان للدراسة في حالة انفصال عن بعضهما الآخر لأزمان طويلة، وبدأت مناهجهما في الاندماج فقط في الآونة الأخيرة. وظل تركيز البحث والتغطية الجغرافية بالنسبة للصحراء وما وراء الصحراء يسير بصورة غير منتظمة بحيث لازالت آثار مناطق واسعة غير مستكشفة فعلياً. بالضرورة تم توجيه قدر كبير من الجهد لتبيان المراحل الأساسية المتعاقبة ولإنشاء هيكل مصطلحاتي بالنسبة لما قبل التاريخ. فقط في الآونة الأخيرة أصبح ممكناً عملياً تقديم رؤية شمولية متماسكة، كما هو واقع محاولتنا هذه، وتقديم تفسيرات مقبولة للاتجاهات والتطورات التي وجدت تعبيراً لها في السجل الآثاري.

    إن تصنيف المواد الأثرية إلى مراحل، وصناعات، ومركبات متعاقبة أصبح يبدو حالياً تقسيماً، إلى حد ما، مصطنعاً لـما هو في واقع الأمر تنوع مستمر في الزمان والمكان. لا بدَّ على كل من الاعتراف بان الحدود المرسومة بدقة بين الأقاليم الثقافية يمكن أن توجد بل وجدت بالفعل في بعض الحالات، وان التغير في الأسلوب والتقنية استمر بمعدلات أسرع في بعض الحالات منها في أخرى.

    خلافاً للافتراضات التي كثيراً ما طرحت في السابق فقد تم الاعتراف حالياً بان قياس نظائر توزيعات الثقافة المادية لا يتطابق بالضرورة مع تلك الخاصة بالمجتمعات الإنسانية كما هو معترف به على أسس اجتماعية - سياسية ولغوية وغيرها. تتزايد درجة الشك في أهمية تصنيف الثقافة المادية إلى مجموعات بالنسبة لحالة الصناعات ما قبل التاريخية المبكرة وذلك لكوننا نادراً للغاية ما ندرك الأغراض التي صنعت من اجلها أدوات بعينها.كثيراً ما تكون هناك صعوبة في التمييز بين التنوع الناتج عن اختلاف الوظيفة، أو عن التقليد الأسلوبي، أو عن التفصيل، أو عن عناصر أخرى مثل وفرة المواد الخام. إضافة فان مجتمعاً معيناً قد ينشغل بأنماط حياة مميزة: في حالات على أسس فصلية، احتمالاً حتى في مناطق وبيئات منعزلة: من ثمَّ قد تمثل المجموعات الأثرية المتباينة نشاطات مختلفة لجماعة واحدة. من جانب ثانٍٍ تمت الإشارة أيضاً إلى أن موضوعات معينة أو أساليب محددة للثقافة المادية يمكن أن تؤدي وظيفة رمزية عبر ارتباطها بمجتمع معين أو جزء من مجتمع كما هو الحال، على سبيل المثال، مع بعض أفران صهر الحديد التي أشار إليها شيلدز.

    ولذلك فإن هذا الكتاب يقدم ما قبل التاريخ الأفريقي من واقع رؤية تتسم بالتشديد على تطور الاقتصاد ونمط الحياة العام دون إهمال للتعريف والتعاقب والعلاقات المتداخلة للصناعات المسماة. مهما كان الأمر فإننا لازلنا، نظراً للوضع الراهن للدراسات في مجال علم الآثار الأفريقية، بحاجة للاحتفاظ جزئياً بالهيكل القديم. ففي أجزاء كثيرة من القارة، كما سيتضح في الفصول اللاحقة، لم يتم إنشاء برامج بحثية آثارية موجهة ومتفق بشأنها. هناك مناطق عديدة، بل أقطار بأكملها، تؤلف فيها المكتشفات العرضية أو الناتجة عن أعمال تنقيب منعزلة، عادة ما تكون سيئة التوثيق، المعطيات الوحيدة التي يمكن إنشاء تركيب على أساسها. في مثل هذا الوضع يمكن لعالم الآثار أن يعد نفسه محظوظاً إذا كتب له النجاح في تقديم خطوط عامة لتعاقب المراحل الصناعية، وهو ما يشكل مطلباً أساسياً وشرطاً مسبقاً للدراسة التفصيلية لأنماط الحياة القديمة وأنماط استغلال الموارد.

    إنه وللنهوض بمهمة كتابة عرض عام موجز لعلم الآثار الأفريقية، مثل ما هو محتوى في هذا الكتاب، كان لا بدَّ من الاختيار والتبسيط بالضرورة في بعض الحالات. ففي حين أعطت بعض المناطق معطيات آثارية كثيرة ومتنوعة لم يقدر لمناطق أخرى أن توفر سوى مادة شحيحة ومحدودة. ومن ثم تم في بعض أجزاء هذا الكتاب ذكر كل موقع جرت دراسته، بينما في أجزاء أخرى من الكتاب لم تظهر سوى صورة أكثر عمومية مستقاة من سلسلة دراسات مقارنة. نتيجة ذلك يمكن أن نتوقع تبدلات أساسية في التفسير مع تقدم البحث والاستكشاف.

    لدى تشييد عرض عام لما قبل التاريخ الأفريقي لا بدَّ من الالتفات بصورة خاصة إلى إنشاء إطار كرونولوجي معقول. تمثل تقديرات العمر القائمة على أساس التحاليل الراديوكاربونية نوعاً خاصاً من الإشكالية ذلك أن معرفة العلاقة بين الأعمار الراديوكاربونية من جانب والأعمار الحقيقية من جانب ثان تصبح ممكنة فقط بالنسبة للفترات الأكثر حداثة. في هذا الكتاب يشار إلى الأعمار بالطريقة الموضحة أدناه تقليلاً للتشويش وتمكيناً من إجراء مقارنة بين التواريخ المشتقة من مصادر مختلفة وعبر مناهج متعددة:
    أ) في الفصول من الثاني حتى الخامس أُعطيت الأعمار بصيغة "حوالي كذا سنة مضت"، أي منذ تاريخ اليوم. تنطبق تلك الأعمار على مراحل فيما وراء 7,000 سنة ولا بدَّ من عدها كلها بحسبانها تقديرات. إنها أعمار مشتقة من بين ركام متنوع من المصادر، في الأساس - بالنسبة للخمسين ألف سنة الأخيرة- الراديوكاربون، ولم تبذل محاولة فحصها أو تصحيحها إلا في حالة توضيح ذلك.
    ب) في الفصول من السادس حتى الثامن أُعطيت التواريخ منذ سنة 5000 قبل الميلاد "بالسنوات ق.م، أو م." هنا تم فحص التواريخ الراديوكاربونية وعبر عنها من خلال السنوات التقويمية طبقاً لحساب ستوفروكرا. يسمح هذا الفحص في فترات معينة باقتراح أعمار نسبية فقط نتيجة التنوع في محتوى الراديوكاربون في الغلاف الجوي. التواريخ الدقيقة مثل سنة 146 ق.م. مستقاة من مصادر تاريخية. كل الأعمار المذكورة في هذه الفصول الثلاثة قصد منها بالتالي لتكون قابلة للمقاربة مع بعضها البعض، لكنها ليست متساوية بالضرورة مع تلك الواردة في الفصول من الثاني حتى الخامس.

    وبما أن العديد من المعطيات ذات العلاقة بالكرونولوجيا المطلقة أصبحت متوفرة الآن أكثر مما كان بوسع مؤلفي التركيبات السابقة استخدامه، ونسبة للبينة المذكورة بعالية، الخاصة بمعدلات التطور المتباينة في المناطق المختلفة فان هذا الكتاب لا يستخدم المصطلحات القائمة على أساس تفرعات تقنية كرونولوجية عريضة مثل "العصر الحجري المتأخر" و"العصر الحجري الحديث" أو "عصر الحديد". لقد تم الاعتراف منذ زمن بعيد بان مثل تلك المصطلحات لا يمكن تعريفها بدقة، لكن ظل استخدامها غير الرسمي مستمراً وهو ما يكون عادة على حساب الوضوح، ومن ثم تم تجنبها في هذا الكتاب.

    علم اللسانيات
    تمثل اللغة وسيلة هامة لتصنيف شعوب أفريقيا. إنها تؤلف معياراً له مغزى أساسي على شعور الفرد بالهوية والانتماء إلى مجموعة. إلى جانب ذلك فان لها صلاحية تاريخية طالما أننا نحصل على معرفتنا بلغتنا الأولى من الأعضاء الآخرين لتلك المجموعة التي تنتمي لها بالميلاد و/أو التنشئة.

    يوجد اتفاق إلى حد بعيد بين علماء اللسانيات بشأن عائلات اللغات الأساسية في أفريقيا يبين المخطط المبين في الشكل 3:1 توزيع تلك العائلات اللغوية. تنتمي اللغات المتحدث بها اليوم في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية للقارة إلى العائلة الرئيسة المعروفة عموماً باسم "الآفرو-آسيوية" أو "الاريترية". وتضم هذه العائلة لغات البربر في شمال أفريقيا، واللهجات الكوشية المتمركزة في إثيوبيا والصومال، وكذلك اللغات السامية واسعة الانتشار التي تنضم إلى عضويتها الحالية اللغات العربية والأمهرية والعبرية.

    إلى الجنوب تبرز منطقة غير منتظمة التشكل تغطي جزءاً كبيراً من وسط الصحراء وجنوبها بالإضافة إلى جنوب سودان وادي النيل، وجزءاً من السافانا المحيطة الممتدة إلى أجزاء من شرق أفريقيا حيث تصنف اللغات الحالية في غالبها بحسبانها نيلية-صحراوية، مع تفرعاتها الرئيسة النيلية والسودانية. ويعتقد بعض علماء اللسانيات ان السونجهاي، التي تشكل لغة التحدث حول منحنى النيجر، تنتمي بصلة قرابة للمجموعة النيلية-الصحراوية. يمكن ان يكون التوزيع الشظوي الحالي للغات النيلية - الصحراوية مؤشراً على كون تلك اللغات كانت منتشرة في السابق على امتداد منطقة أكثر اتساعاً.

    تنتمي معظم اللغات الحالية في غرب أفريقيا لعائلة لغات النيجر-الكونغو التي يمكن تمديدها لتشمل اللغات الكردفانية المتحدث بها في غرب سودان وادي النيل. طورت تلك اللغات امتداداً معلوماً في غرب أفريقيا. من جانب ثان فان توزع مجموعة فرعية واحدة من لغات النيجر - الكونغو يمتد ليشمل أجزاء أكبر من وسط أفريقيا وجنوبها باستثناء أقصى الجنوب الغربي الذي تسود فيه لغات البانتو. ويلاحظ انه رغم كبر منطقة انتشار لغات البانتو فإنها تظهر درجة شبه قوية نسبياً بعضها بالأخرى. يقارب الحد الجنوبي للغات البانتو التخوم الشمالية للقطاع الغابي الاستوائي. وفي القطاع الغابي للسافانا تنتمي لغات اواماوا والاوبانجي إلى عائلة النيجر-الكونغو.

    كما سيتم توضيحه في الفصل السابع فان هناك بينة جيدة تشير إلى أن الشعوب المتحدثة بالبانتو انتشرت من المنطقة الشمالية الغربية إلى العروض المجاورة لخط الاستواء خلال مجرى آلاف السنوات القليلة الماضية. حل أولئك السكان في أجزاء معتبرة من هذه المنطقة، أو امتصوا شعوباً كانت تتحدث بلغات العائلة الخويسانية كما هو موجود الآن في أقصى الأجزاء الجنوبية الغربية للقارة. تلك هي لغات الخوي والسان (اللتين يطلق على المتحدثين بهما في بعض الحالات المصطلحين الازدرائيين الهوتنتوت والبوشمن اللتين احتفظ المتحدثون بهما بأنماط حياتهم القائمة على الصيد والرعي حتى أيامنا هذه). هناك مؤشرات دالة على انتشار لغات ذات قرابة بالخويسانية في الأزمان المبكرة شمالاً حتى منطقة الحدود الكينية التنزانية الحالية، لكنه في المناطق الأبعد غرباً فان امتداد انتشارها الشمالي أقل موثوقية.

    تقدم تلك اللغات الحديثة المعطيات التي ينشئ علماء اللسانيات على أساسها استنتاجاتهم. انه ومن خلال دراسة توزيع الأشكال اللغوية الحديثة يكون بمقدور عالم اللسانيات إعادة بناء بعض السمات الخاصة بلغات الماضي التي اشتقت منها اللغات الحديثة، وان يقترح المناطق التي تم التحدث فيها بتلك اللغات السلف. المفردات المعروفة عن تلك اللغات السلف يمكنها أن تقول لنا شيئاً عن أنماط حياة المتحدثين بها وعن الأشياء التي اعتادوا عليها. تنتقل الكلمات، نتيجة الاتصال الناشئ بين الشعوب، من لغة إلى لغات مجاورة. تلك الكلمات المنتقلة يمكن تتبعها هي الأخرى. عن طريق مثل تلك الدراسات يصبح ممكناً إعادة تركيب ما قبل التاريخ اللساني لأفريقيا بصورة متماسكة.

    ليست لدينا، بالطبع، معلومة محددة عن السرعات المتفاوتة التي تسير بها عملية التغير اللغوي. فقط في حالة اللغات ذات التاريخ المكتوب الطويل يكون من الممكن حساب تلك السرعة بدقة. علم اللسانيات بمفرده يمكنه أن يقدم فقط ترتيب نسبي للعمليات والأحداث إلى جانب تقديم مبدئي للغاية للامتدادات الزمنية. لا بدَّ من النظر بقدر من الاحتراس للصيغ الزردمة كرونولوجية (وهي طريقة لحساب الأعمار التي وقعت فيها تطورات لغوية)، بخاصة لدى تطبيقها في محتويات غير كتابية طالما أن تلك الصيغ تفترض أن التغير اللغوي يحدث بنسبة متسقة. على كل فانه حين تكون هناك روابط بين التواترات المستقلة القائمة أساساً على علم الآثار وعلم اللسانيات فان كرونولوجية اللسانيات يمكنها أن تقف على أرضية أكثر متانة. إن إعادة التركيب التاريخي القائمة على قاعدة الدراسات اللسانية يمكن أن تقدم دعماً محدداً للبينة الآثارية في المناطق التي لم تتعرض لأعمال تنقيب مكثفة، ولأن العديد من جوانب علاقات المجموعات المتداخلة التي تبرزها الدراسات اللسانية يصعب توضيحها على أساس البينة الآثارية. ترتبط مثل إعادة التركيب اللسانية تلك بالخمس أو ست آلاف سنة الأخيرة رغم أن محاولات أجريت لتطبيق تلك المناهج على مراحل مبكرة.

    التحدار الشفهي
    لإعطاء تفسير سليم للتحدارات التاريخية المحتفظ بها في العديد من المجتمعات الأفريقية علينا أن ندرك الدور الذي تقوم به تلك التحدارات في المجتمعات والأسباب الكامنة وراء إعادة تجميعها. عادة ما نجد أن التحدارات الشفهية يتم الاحتفاظ بها بعناية وتتم عملية إعادة سردها وسط أولئك الناس الذين يتوفر لديهم نظام سياسي متمركز. في مثل تلك الحالات فان وظيفة التحدارات التاريخية عادة ما تكون منصبة على دعم السلطة القائمة، على سبيل المثال، من خلال تفسير أصل العشيرة أو العائلة الحاكمة والطريقة التي يدعي بها أفرادها حقهم في مزاولة الحكم. تعترف العديد من المجتمعات بهذا الجانب من التحدار الشفهي ولهم مؤرخون رسميون يكون من واجبهم الاحتفاظ بالصيغ الاورثوذوكسية لتاريخ الدولة ونقله للأجيال اللاحقة.

    هناك اتفاق عام على أن التحدارات التي تزعم علاقتها بأحداث تبعد إلى أكثر من أربعة قرون أو خمسة مضت لا بدَّ من تفسيرها بحذر خاص. الكرونولوجيا المطلقة (بالمعنى الغربي للمفهوم) لا تشكل مركزاً لاهتمام حفظة التحدار الشفهي، ويمكن أن تكون الأحداث في بعض الحالات قد وقعت في فترة أسبق بكثير من تفسيرها الحرفي الذي تسير إليه التحدارات. وتظهر التحدارات التاريخية الشفهية، كما هو الحال بالنسبة للتاريخ المكتوب، ميلاً للتركيز على الأحداث السياسية وعلى نشاطات الشخصيات البارزة. وبالتالي فإنها ليست بديلاً لعلم الآثار مصدراً للمعلومات التاريخية. إن تركيب صورة شاملة لماضي أفريقيا يصبح أمراً ممكناً فقط عبر المصادر المتوفرة.

    أفريقيا فيما قبل التاريخ العالمي
    تمثل الصورة الآثارية لماضي أفريقيا القابلة للإدراك أهمية عالية بالنسبة لدراسة ما قبل تاريخ البشرية. تتوفر البينة الدالة على نمط حياة البشريات المبكرة الأولى وخصائصها الفيزيقية في الوقت الراهن فقط من مواقع افريقية. في حين يصعب تقديم إثبات حاسم على أن بني الإنسان تطوروا بداية في أفريقيا فان هناك احتمال قوي بان يكون الأمر كذلك. إن تواتر مجتمعات الصيد/الجمع الأفريقية هو الأكثر امتداداً زمنياً وهو الأكثر تنوعاً كذلك من بين التواترات المعروفة . انه يمتد من أصول البشرية حتى يومنا هذا ويقدم، احتمالاً، رابطة تطورية بين دراسات المتخصصين في سلوك الرئيسات وبين الانثروبولوجين الاجتماعيين. انه يدلل على التكيف مع بيئات واسعة التنوع بدءاً من الصحاري والعروض مرتفعة التجمد من جانب، إلى الغابات المطيرة والمستنقعات الساحلية من جانب ثانٍ. لقد وقعت التغيرات المبدئية الأساسية خلال مليوني أو ثلاث ملايين سنة وهي التغيرات التي تهمنا هنا، لكن تلك التغيرات لم تك في أفريقيا بالحجم نفسه الذي شهدته العروض الشمالية. ورغم أن توزيع التغيرات البيئية قد تعرض لتحولات عديدة فان مدى الأوضاع التي تم استغلالها من جانب الصيادين/الجامعين ما قبل التاريخيين قد احتفظ بها في أفريقيا بصورة لا نظير لها في القارات الأخرى التي عاش فيها الإنسان في البليستوسين الأوسط أو الأزمان الأسبق. تمنح هذه الاستمرارية، سواء في البيئة أو في نمط حياة الصياد/الجامع نفسه، أفريقيا سلسلة منقطعة النظير من الإمكانيات لتفسير الاتجاهات الرئيسة والعمليات في تطور البشرية.

    كان كلارك قد لاحظ أن التقدم في تقنية تصنيع الأدوات الحجرية اتبع مسارات ومراحل متشابهة في معظم أنحاء العالم. وقد عدت صناعة النصال المدببة الظهر من النوع الذي ميز العصر الحجري القديم الأعلى في أوروبا وغرب آسيا بمثابة مقدمة لتطور إنتاج الطعام، بالتالي مقدمة لتطور المدنيات غير الأمية في نهاية المطاف. هذه الفرضية قد تم التشكك في ثبوتها بخاصة بالنسبة لأفريقيا وذلك اعتماداً على حقيقة أن هذا النوع من الصناعات لم يك شائعاً في أفريقيا جنوبي الصحراء، في حين وجدت فيها منذ تاريخ مبكر للغاية صناعات ميكروليتية من النوع الذي صنعه منتجو الطعام المبكرون في أوروبا والشرق الأدنى. أكدت الأبحاث الأخيرة صحة هذه الملاحظة وأثبتت وجود الصناعات الميكروليتية في جنوب أفريقيا في تاريخ أكثر قدماً من أي مكان آخر من العالم، وليس أنها أقدم بكثير من صناعات النصال الأوربية والآسيوية فحسب بل أنها ارتبطت بالمتحجرات الأكثر قدماً المعروفة حتى الآن والتي يمكن إرجاعها باطمئنان إلى الإنسان الحديث، العاقل عاقل (أي الإنسان الحديث تشريحياً - المترجم). تصبح تلك الاكتشافات أكثر أهمية نتيجة البحث الوراثي المعاصر الذي يشير إلى أن كل السكان من نوع الإنسان الحديث يمكن أن يكونوا قد انحدروا من سلف أفريقي. بعيداً عن أن تكون أفريقيا مياهاً خلفية كما افترض في السابق، فإنها ربما كانت في البليستوسين الأعلى رائداً عالمياً بالنسبة لتطور نوعنا وكذلك لتطوره التقني.

    احتوى البحث الجاري حالياً كذلك على إعادة تقييم للبينة الخاصة بأشكال حياة الاستقرار وإنتاج الطعام في أفريقيا. يمكن رؤية تلك التطورات، على الأقل في جنوب الصحراء، بحسبانها قد حدثت تدريجياً وبصورة مستقلة عن العمليات المشابهة في أجزاء العالم الأخرى. يبدو أن حياة الاستقرار ظهرت فيما هو الآن الصحراء الجنوبية والسهل في هيئة بيئات غنية بالمياه سادت هناك في بداية الهولوسين. لقد تم الاعتراف حالياً بان هذه المنطقة تمثل موطناً للعديد من الأنواع النباتية التي حولت فيما بعد لتصبح أنواعاً مدجنة بحسبانها محاصيل غذائية هامة هنا وفي أجزاء أخرى مما وراء الصحراء الأفريقية، وقد تم تطوير محاصيل إضافية في إثيوبيا، وأخرى في هامش الغابات الاستوائية. ورغم أن الحيوانات المدجنة (التي جابت مراعي جنوب الصحراء) قد جلبت، على ما يبدو، من مكان آخر، فانه أصبح واضحاً أن أفريقيا كانت منطقة أساسية للزراعة الأولية للخضراوات المتنوعة واليام والأرز والحبوب الجافة.

    باستثناء وادي النيل المصري لم يشهد أي جزء آخر من قارة أفريقيا نشوء مدنية غير أمية محلية، ذلك أن التأثيرات الخارجية كان لها إسهاما بيناً في نشوء مدنية مروى السودانية النيلية ومدنية أكسوم ومدنية الساحل الشرقي لأفريقيا. ما هي العناصر الرئيسة التي أسهمت في نشوء مدنية غير أمية في مصر وغيرها وسجلت غياباً في بقية أجزاء أفريقيا؟ تميز وادي النيل المصري بخصوبة تربته العالية نتيجة فيضانات النهر الموسمية. لكنه من جانب آخر أعاقت الصحاري المحيطة بالمكان أي توسع فيزيقي للسكان المتكدسين على ضفتي النهر بما يفوق طاقة الوادي الخصيب على استيعابهم. أوضاع شبيهة سادت في مراكز مدنيات مبكرة أخرى: وادي الاندس، والجزيرة الفراتية، والنهر الأصفر، والمكسيك وغيرها. تطلب الضغط الناجم تحكماً ما كان ممكناً تحقيقه إلا عبر نظام اجتماعي سياسي، نظام مقنن بالغ التعقيد من النوع الذي لا يكون صالحاً للمجتمعات الأصغر حجماً والأقل تعقيداً الموجودة في معظم أجزاء القارة الأخرى. قد يقال أن ثراء البيئة الأفريقية وافتقادها وجود حواجز فيزيقية هو ما سمح، على الأقل جزئياً، عادة للمجتمعات الأفريقية بتطوير أشكالها وأنظمتها الخاصة بعيداً عن القيود التي تفرضها المدنية غير الأمية.

    لكنه يكون أكثر صلة بموضوعنا الاهتمام بما أنجزته أفريقيا لا بما لم تنجزه. في لب موضوعنا تقييم تطور المجتمعات الأفريقية كما يتبدى من واقع علم الآثار وغيره من العلوم، من وجهة نظر داخلية قبل اللجوء لعقد مقارنة مع نظائرها في الأجزاء الأخرى من العالم. هكذا يكون ممكناً تقييم الإنجازات الأفريقية في محتواها الأفريقي، وتقدير حجم النشاطات الاقتصادية والتقنية، والأنظمة الاجتماعية السياسية، والمعتقدات والتي تم تطويرها وفق الكثافات السكانية المتفاوتة والحواجز الفيزيقية وسبل المواصلات والموارد المتوفرة. هكذا يمكننا رؤية الطريقة المثلى التي تم عبرها استغلال البيئات المختلفة. يمكننا أن ندرك لماذا بلغت تقنية صب القوالب البرونزية مستوى عالٍٍ من المهارة المشهود بها في غرب أفريقيا في حين لم تشهد جوانب أخرى - مثل المواصلات - سوى تغير طفيف على مدى مراحل طويلة. يمكن أن نثمن التحدار الشفهي بحسبانه نظيراً للأدب المكتوب، وان نتمعن بدهشة الأشكال الفنية القديمة المصنوعة من الأخشاب والمواد الأخرى القابلة للزوال والمعروفة لنا حالياً من نماذج حديثة. ويمدنا علم الآثار الأفريقية بنظرة جديدة وفريدة لتطور الثقافة المؤدي إلى المجتمعات الحديثة التي تعد اليوم لا بحسبانها فاشلة سقطت وهوت إلى طريق فرعي خلال نمو الثورة الصناعية، لكن بحسبانها أمثلة لتعبيرات مختلفة للثقافة الإنسانية المتكيفة كلياً مع ظروف ممارسيها.

المواضيع ذات الصلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
أنشئ بواسطة HaMooooDi, 03-23-2024, 11:27 PM
ردود 0
32 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة HaMooooDi
بواسطة HaMooooDi
 
أنشئ بواسطة HaMooooDi, 03-23-2024, 11:21 PM
ردود 0
19 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة HaMooooDi
بواسطة HaMooooDi
 
أنشئ بواسطة HaMooooDi, 03-22-2024, 11:01 PM
ردود 0
19 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة HaMooooDi
بواسطة HaMooooDi
 
أنشئ بواسطة HaMooooDi, 03-22-2024, 10:50 PM
ردود 0
25 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة HaMooooDi
بواسطة HaMooooDi
 
يعمل...
X