الشاعر الراحل محمود درويش في سطور ...لو أعدت كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعر الراحل محمود درويش في سطور ...لو أعدت كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة

    الشاعر الراحل محمود درويش في سطور ...لو أعدت كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة



    / الشاعر الفلسطيني محمود درويش في إحدى قرى عكا و هي قرية البروة و ذلك عام 1941 م . و في عام 1948 قامت العصابات الصهيونية بتدمير القرية الأمر الذي دفع أهل القرية الى مغادرتها.

    وجد محمود درويش نفسه و هو في عمر السابعة لاجئاً في لبنان ، و لا يعلم شيئاً عن أهله، و بعد عام من ذلك عاد محمود درويش الى فلسطين ليجد قريته قد دمرت و حل محلها مستعمرة صهيونية.

    كتب محمود درويش قصيدته الأولى حين كان طالباً في مدرسة قرية" دير الأسد" الإبتدائية.

    أجبر محمود درويش على البقاء تحت المراقبة الإجبارية في منزله لم يسمح للشاعر محمود درويش ان يكمكل دراسته العليا ، على أي حال غادر محمود درويش الى موسكو في عام 1970 م و منها توجه الى القاهرة عام 1971 م.
    كان درويش مسؤلاً عن المركز الفلسطيني للأبحاث و محرراً في مجلة "شؤون فلسطينية" و مسؤولا في "الجمعية العامة للصحافيين و الكتاب الفلسطينيين" و يشغل الان رئيساً لتحرير " الكرمل" .


    يعتبر محمود درويش من أكثر شعراء فلسطين شهرة نطراً لتلك القصائد التي يتنولها و التي قد تثير في أكثر الأحيان ضجة في الشارع الصهيوني و لعل أبرز هذة القصائد هي هذة و التي أثارت زوبعة في الكنيست الصهيوني قبل سنوات

    عابرون في كلام عابر

    ايها المارون بين الكلمات العابرة
    احملوا أسمائكم وانصرفوا
    وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا ،و أنصرفوا
    وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
    و خذوا ما شئتم من صور،كي تعرفوا
    انكم لن تعرفوا
    كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء

    ايها المارون بين الكلمات العابرة
    منكم السيف - ومنا دمنا
    منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
    منكم دبابة اخرى- ومنا حجر
    منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
    وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
    فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
    وادخلوا حفل عشاء راقص..و انصرفوا
    وعلينا ،نحن، ان نحرس ورد الشهداء
    و علينا ،نحن، ان نحيا كما نحن نشاء

    مقابلة مع الشاعر الراحل محمود درويش

    إنه حديث عن الشعر، وليس أكثر بداهة من الكلام عن الشعر مع شاعر وخاصة إذا كان بوزن محمود درويش وحضوره وأثره العام، لكن الكثيرين يجدون دائما مع درويش سؤالا أحدث من الشعر وأكثر إلحاحا، ربما لأن الحدث الشعري الأهم موجود في دواوينه، ولأن الوجه الفلسطيني له أكثر استدرارا للكلام، والأرجح أن درويش الذي قال في شعره كل شيء عن الشعر وبملء حريته، بالطبع، شعر أن الكلام الطويل عن الشعر يقيده، فالتأمل في الشعر يظل عوداً على بدء وخيطاً في الظلام. لم يكتب درويش عن الشعر إلا قليلاً ولم يول للتنظير الشعري إلا قليلاً. لقد صنع شعره من دون أن يحير قراءه بمثال نظري وبدون أن يلتبس فيه الشاعر بالمفكر في الشعر. كفاه الالتباس الذي لا ينفك بين الشاعر والفلسطيني... الشاعر أولا بالتأكيد عند درويش، وما فعله هو أن يبقى الشعر أولا وتصدر عنه كل البطاقات الأخرى. لقد جعل فلسطينيته عنواناً آخر للشعر وحولها إلى ملحمته وميتافيزياه وإشكاله الأنطولوجي. لا يخسر الشعر بذلك، لكننا مع درويش نتكلم أيضاً سياسة رفيعة ونبيلة ومفعمة بقلب ووضع إنسانيين. قبل محمود درويش أن نتكلم عن الشعر وحده طوال ساعتين. تجربة خاضها باسترسال وطلاوة ولكن أيضا بتأن وتمعن، ولا أعرف إذا نجحنا في أن نترسم بياناً شعرياً لدرويش من هذا الحوار أم أن بيانه الفعلي موجود في قرابة 20 ديواناً. الزميلة الشاعرة عناية جابر حضرت المقابلة وتدخلت فيها.

    › آخر مرة التقينا فيها قلت لي أن الشاعر ينبغي أن لا يقرأ كثيراً من الشعر، وبهذا المعنى فإن الشعر ليس المصدر الأول لشعرك. هل تقرأ شعراً قبل الكتابة مثلاً؟

    أقرأ دائماً. ولكن حين أكون منكباً على كتابة نصوص شعرية، وأنا من عادتي أن اكتب في الصباح، فإنني لا أقرأ قبل أن اكتب. أقرأ فقط ساعتين في الليل أو بعد الظهر، إذ مهما كانت الذاكرة محصنة من الاقتباس فأي قراءة قد تتغلغل في اللاوعي. أخاف أن تسقط مما قرأته أصداء في نصي الشعري... ومع أن كل النصوص هي كتابة على كتابة، فإن دخول ما ليس منك إليك يكون مباشراً إذا أنت قرأته قبل الكتابة مباشرة. لذلك لا أقرأ شعرا، بل موضوعات بعيدة كليا عن الشعر لكي لا يتداخل نصي مع النص القادم من مصدر آخر في لاوعيي. لكن مهما حمينا أنفسنا فإن كل نص لأي شاعر فيه نصوص لشعراء آخرين. الكتابة الشعرية كما قلت هي كتابة على كتابة. المهم أن تجد صوتك الخاص وتنفسك الخاص بعيدا عن هذه المؤثرات التي هي حتمية. لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشراً.

    › ما دمنا في القراءة، أتشعر بأن حساسيتك للشعر الذي تقرأه وانفعالك بهذا الشعر يقلان مع الزمن؟

    هذا يتوقف على أي شعر أقرأ. إذا تكلمت بشكل عام عن الشعر العربي فالجواب نعم، حساسيتي تقل، وكذلك دهشتي، ذلك لأن تطلباتي تزيد، ولأن إنجاز الشعر العربي لا يقدم مفاجآت كبرى. هناك شيء من النمطية يكاد يسود كتابتنا الشعرية. الأمر يختلف عندما أقرأ شعراً أجنبياً وخاصة في شعر بدايات القرن العشرين. أجد دائما عند ذاك جهوزية للاندهاش والفرح بالعمل الشعري. أحس بأننا نحن العرب ذاهبون إلى مكان تركه الآخرون منذ قرن.

    › هل هناك بين الشعراء الأجانب الكبار من فقدت مع الزمن الانفعال بهم، وكانوا مدهشين لك ومؤثرين فيك خلال صباك؟

    كنت أظن ذلك، حسبت أن علاقتي ببابلو نيرودا خفت، وكذلك علاقتي بناظم حكمت، لكني قرأت حكمت ونيرودا من جديد، فوجدت العكس وخاصة حكمت فهو مظلوم إذ صُور عند القارئ العربي على أنه شاعر سياسي مباشر وأن شعره لا يحمل إلا البعد النضالي.

    وأنت حين تدقق فستكتشف أن جماليات شعره تجعله قابلاً للقراءة في أي زمان. نيرودا لم يتعرض لهذا الاتهام، فقد بقيت له مكانته الشعرية وخاصة في شعر الحب، هو الذي اشتهر عند العرب كشاعر نضالي كانت عبقريته الشعرية أساساً هي في شعر الحب والنشيد الشعري.

    لوركا أيضا أثر بي كثيراً في فترة معينة ثم تراجعت علاقتي به، لكن أعود لقراءته فأجد أن غنائيته لا تزال تحركني، غرائبية صوره وسورياليتها ومفارقاتها وتبدل وظائف الحواس فيها. الشاعر الكبير يظل كبيراً. من ليس كبيراً يختفي. ماياكوفسكي لا أشعر بالرغبة في إعادة قراءته ولكني قرأت مؤخراً كتاباً عن سيرة حياته وأدركت إلى أي حد كان مسكوناً بالهاجس الشعري وبإجراء تفجيرات حقيقية في اللغة الروسية وبالإيقاع الشعري الروسي. هو بهذا المعنى بقي شاعراً كبيراً.

    مشكلتنا نحن العرب أننا وضعنا الشعراء تحت لافتات، كان على اليساريين أن يحبوا نيرودا وماياكوفسكي وعلى غير اليساريين أن يحبوا ت. اس. إليوت مثلاً، مع أن إليوت شاعر لا يستطيع أن ينجو من سحره وتأثيره أي يساري. الآن انتفى المقياس الأيديولوجي تماماً في علاقتنا بالنصوص الشعرية فأصبحنا أكثر حرية في قراءة النص، وكذلك أصبح النص أكثر حرية في اختراقنا. أي أصبح عندنا إلى حد ما قراءة بريئة أكثر منها وظيفية، فقد كنا نقرأ قراءة إلى حد ما قراءة غرضية لكي نخدم انحيازنا إلى مفهوم محدد للشعر. الشعر العظيم لا يتوقف عند هذه الحدود والحواجز الأيديولوجية.

    حساسيتي تتغير فعلاً من وقت إلى آخر، وليس لها علاقة بهذا الشاعر أو ذاك. كذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الشعر القديم. لم أكن أحب دائماً أن أقرأ المعري. أقرأه اليوم وأكتشف فيه شيئا غير الحكمة... علاقتي بأبي نواس هي كذلك. أبو نواس لا تتوقف أهميته على انه جدد في الموضوعات، هذا تعليم مدرسي، بل أهميته في كم هو شاعر، في كم غيّر في اللغة الشعرية وكسّر جهامتها وكلاسيكيتها بالمفهوم الزمني ذاك. أمتلك الآن حرية قراءة أكثر من السابق.

    علاقتي بالشعر الحديث تغيرت، فلي الآن نظرة مختلفة تجاه شعر ما يسمى بشعر الرواد الذي طالما احتفينا به، كثير منه لا أستطيع أن أقرأه اليوم. لا تطلب مني أن أسمي. معظمه حتى لا أستطيع أن أقرأه، وإذا قرأته أحاسب نفسي وأسألها ما الذي أعجبها من قبل فيه. عمري الشعري ومستوى تطور الشعر العربي الحديث سمحا يومذاك بأن تكون هذه النماذج هي الأفضل، لكن الآن وبعد مرور حوالي 50 سنة من الشعر العربي الحديث صار من حقنا أن نعيد النظر في كثير من شعر الرواد.

    › البياتي مثلاً؟ أخبرتني مرة أن أحد الشعراء الأوائل الذين قرأتهم في فلسطين كان البياتي.

    في أحاديثي لا أسمي. لا أحب أن أدخل في مناوشات لأن رأي الشاعر بالشاعر ليس مقبولاً عندنا حتى الآن، السبب البسيط هو أن الشعراء شهّر بعضهم ببعض إلى حد أنهم فقدوا مصداقية إبداء الرأي في شعر بعضهم ببعض، فلكثرة ما هشّم بعضهم بعضاً وما كسّر بعضهم بعضاً، لا نصدق أن أحكامهم على بعضهم تصدر عن منطلقات فنية.

    ›استطراداً أسألك، قلت إن الرواد بمعظمهم بعيدون حالياً عن ذائقتك، هل ترى أن جيل ما بعد الرواد كان أفضل بمعنى ما؟

    أفضل أو ليس أفضل، هذا حكم قيمي. الأساس في الموضوع هو أن طموحهم الشعري أعلى ووعيهم الشعري أرقى ومعرفتهم الشعرية أغنى أيضاً. تمردهم على الرواد أعطى شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن يقينيات الرواد. في شعر الرواد كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها قد تكونان تقليديتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما الشعراء الذين بعدهم فإن نظرتهم للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية بالنسبة إلي هي كيف تعيد الحياة إلى اللغة على إيقاع زمنك الحديث، هذه بالنسبة إلي حداثتنا العليا الشعرية.

    › أي حداثة هذه، هل يمكن الكلام عن حداثة عربية؟

    ? لست أتكلم عن حداثة عربية، الحداثة مفهوم شامل للمجتمع. عندنا تحققت الحداثة فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، لكن الحداثة هي إعادة النظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد، هذه لم تتحقق، لكن هل على الشعر أن ينتظر تحديث نفسه إلى أن تتم الحداثة بمعناها الشامل؟ نحن من دون حداثة غربية لا نعرف أن نناقش في الحداثة. ولا يمكن الحديث عن حداثة عربية بمعزل عن تأثرها بالحداثة الغربية. السؤال هو كيفية التأثر، هل هي نسخ، أم هضم واستيعاب.

    قتل المعنى

    › هل ترى بناءً على ما سبق أن شعر الرواد كان شعر بيانات واقتراحات بينما الأجيال التالية كان مطلوباً منها أن تحقق إنجازات موضعية أكثر منها بيانات شاملة واقتراحات مبدئية....؟

    بالتأكيد أوافق. وأضيف أيضاً أن شعر الرواد كان شعر تبشير بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها. كان هذا دورا تاريخيا مهما لأن الجيل الجديد لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد ومع القديم الخ... هكذا ورث حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني ومع المقدس. إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع تجربته ويغامر أكثر. جرأة المغامرة عند الجيل اللاحق كانت أعلى من الجيل الذي قبله لأن المناخ بات صالحا للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى.

    أما حكم القيمة على هذا الإنجاز، فلست أنا من يستطيع تقديمه.

    › أنت شخص كرّست نفسك للشعر تقريباً وقلما كتبت شيئا غير الشعر، وأنت من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر، هل تجد نفسك مع كل هذا النتاج الشعري الوفير أنك قد عبّرت عن نفسك أم لديك إحساس وقد يكون مفهوماً بأن كل ديوان جديد هو صمت إضافي؟

    أحب أن أقول إني لم أدخل في كتابة التنظير والنقد الأدبي من منطلق أن من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً، الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته، ومع احترامي لشعراء كثيرين في العالم كانوا نقاداً كباراً وشعراء كباراً أيضا، بول فاليري وأوكتافيو باث، وكذلك ت. اس. إليوت ومونتالي الإيطالي... هناك نماذج كثيرة تكسر رأيي وتنقضه، لكني لم أدقق إلى أي حد كانوا بعيدين عن الانحياز إلى خيارهم الشعري، وإلا فلماذا تبنوه. الذي يتبنى مذهبا في الشعر عليه أن يقدم مرافعة نظرية للدفاع عنه وتأييد التيارات التي تدور حوله. في رأيي أيضاً أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه. أي إن الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته النقدية لشعره.

    سألتني عن النظر إلى الوراء. عندما أنظر إلى الوراء لا أنظر برضى أبداً وإلا لما تعبت إلى هذا الحد، أقدر على نقد ذاتي وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر، أقدر أيضاً على إعادة النظر في كل نص، ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي وهي حوالي عشرين كتاباً فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط. لكن لا أحد يتحكم في عمره، كل عمر له تعبيره وقدراته. قلقي أكثر من طمأنينتي، لست مطمئناً إلى ما فعلته وأحاول دائما الوصول إلى منطقة تشبه ما يسمى وهذه طبعاً تسمية مستحيلة الشعر الصافي. ليس هناك شعر صاف، ولكن علينا أن نصدق أنه موجود لكي نواصل البحث والكتابة عنه، أي إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. هذا المستقبل موجود أم غير موجود، لا أعرف، لكن يجب أن نصدق أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع، مع أن الشاعر، في الجهة الأخرى أو في التناقض الآخر، هو ابن عصره ولا يستطيع أن يؤجل كما قلت أمس لا الهنا ولا الآن إلى زمن آخر. هذه مهمة لا ندري كيف تتحقق. ربما يحصل ذلك بفضل قلق الشاعر وهجسه بخلق جماليات تصلح للقراءة في زمن آخر إذا أمكن، هناك اليوم شروط أوفى ليكون الشعر أصفى وأجمل (لا أريد أن أقول أنظف) وأقل توفيقية أي أقل هوميرية، إذ لم يعد هناك أي ضرورة للهوميرية. كتبت في ديواني الأخير أنه لو كان التلفزيون موجوداً في حرب طروادة لما كتب هوميروس الإلياذة، بل لكان كتب الأوذيسة. هناك مهمات يقوم بها علم الاجتماع وعلم التاريخ والصحافة والإعلام، كان الشاعر يُحمّل أعباءها، ونحن العرب حتى زمن قريب كنا نعتقد أن دور الشعر القديم ما زال موجوداً فينا فعلينا أن نكون مؤرخين ومناضلين وأنثروبولوجيين وعلماء أساطير لكي نكون شهوداً على زمن ما. علينا أن نعرف أن هذه مهمات لا يستطيع الشعر أن يقوم بها وحده، بل يجب أن تكون هناك حركة ثقافية كاملة تقوم بهذه المهمة.

    › هكذا نجد أنفسنا أمام مسألة مهمة وهي نظرة العرب للشعر التي ربما تحكمت جزئياً بالقصيدة الحديثة، أن تكون القصيدة شاملة، أن تكون ثقافة كاملة، أن تكون القصيدة رؤية وتاريخاً وفلسفة وشعراً وبرنامجاً نظرياً ورأياً في الشعر...

    نعم صحيح.

    › (...) لم يؤرق هذا الشعراء الشبان الذين لم يكونوا يوماً أمام قصيدة بهاجس التأريخ لمرحلة أو وصف مرحلة أو الكتابة عن قضية... إطلاقاً.

    أتكلم عن مرحلة سبقت وضع الشعر الحالي. من حسنات الأصوات الجديدة في الشعر العربي أنها تشعر بأن عليها أن تكتب ذواتها الصغيرة، مشاكلها الصغيرة، هامشيتها.. الخ. بحثها عن المعنى مختلف في المفهوم القديم للمعنى. كان المعنى يسبق النص، الآن يتجلى المعنى من خلال البحث عنه في داخل النص. الفارق الحقيقي النوعي بين الشعر التقليدي والشعر الحديث هو الموقف من المعنى، لكن يجب ألا نسرف في قتل المعنى، بحيث يصبح الشعر الحديث كأنه لا معنى له إلا إنجاز اللامعنى، لأن التمرد على المعنى إلى هذا الحد هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته.

    › في الهامشية معنى أيضاً...

    بالضبط، ولكن ينبغي ألا نتطرف. هناك حركة وقول وأحاديث وانعكاسات لرياح قادمة من مكان آخر تقول بأن الشعر الحديث يجب أن نبشر فيه بموت المعنى، وأن موت المعنى هو المعنى الحقيقي للوجود.

    › إذا توقفنا قليلاً عند المعنى، كما قلت في كلمتك أمس (في كوكتيل دار الريس) كنت معك ومع شار، الذي يقول إن فقدان المعنى لا يجوز أخلاقياً وليس شعرياً فقط. لا يجوز أن يتكلم الواحد بلا معنى ويتقصّد اللامعنى، ومع ذلك هل المسألة هي مسألة وجود معنى أم إمكانية استقبال معنى؟

    إذا دققنا فلسفياً في الموضوع، فحياتنا المعاصرة تموت المعاني الكبرى فيها وتتساقط. لذلك يحاول الشعر أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي. أنا أميل أكثر إلى حقنا في العبثية واللعب، فهذا قد يكون الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى، أن نكون عبثيين أو لاعبين أو ساخرين، لا أن نرد على اللامعنى بلامعنى. أن نقدم لحياتنا معنى عبثياً فهذا معنى واختيار فكري. أن تكون عبثياً أو عدمياً، هو اختيار، قد يُحترم وقد لا يُحترم. هذا على كل حال بحث آخر. سؤالك عميق جداً، هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس عن الحركة حتى. إذا فهمنا أنه لا إمكانية لإنجاز معنى فمعناه أننا دخلنا في ما يشبه الموت المعنوي كلياً، وفي موت الإرادة وفي الموت الحسي أيضاً وربما في الموت الميتافيزيقي

    › لننتقل إلى تعريف كالذي كان يقول إن الشعر كلام بالصور، لأي درجة يبقى هذا التعريف صحيحاً إذا قارنا الشعر بعلم الفلك، فأي عالم من الصور يبقى...

    منذ النصوص الشعرية الأولى التي كتبها الإنسان أو قالها شفهياً ودوّنها في ما بعد، وحتى الآن، لم نستطع أن نعثر على تعريف كامل وصالح لكل زمان للشعر، كان هناك اجتهاد بأن الشعر يُعرّف بنقيضه، لكن السؤال: ما هو نقيض الشعر؟ ما هو اللاشعر. كان يقال مجازاً إن نقيض الشعر هو النثر، وان الفرق بينهما هو أن الشعر يعتمد على الاستعارة، حسناً... لكن الاستعارة موجودة أيضاً في النثر. ثم كان يُقال إن الشعر يعتمد على التخييل، لكن التخييل أيضاً يمكن أن يكون موجوداً في النثر. ثم قيل إن الشعر يحدده الإيقاع، وشرطه الإيقاع، لكنْ للنثر أيضاً إيقاع. إذاً نحن بهذه التعريفات لا نبحث عن القصيدة بل عن تعريف للشعرية، أي إن الشعرية تعتمد على الاستعارة والتخييل والإيقاع... لذلك يجب أن نبحث كيف تتحقق الشعرية في القصيدة. أقول ذلك لنسهل الوصول إلى تعريف ما، كيف يمكن للشعرية أن تتحقق في القصيدة؟ أنا أعتقد أن ذلك يتحقق من خلال نظام بنائي إيقاعي، ولا أقول إن الشعرية في القصيدة أكثر شعرية منها في النثر، فقد تتحقق الشعرية في النثر أكثر مما تتحقق في القصيدة، لكن لنستطيع أن نقول إن هذا شعر، مجازاً، يجب أن نقول إن هذه الشعرية تحققت في القصيدة لأن بناءها ونظامها الإيقاعي هما هكذا. الصور طبعاً مكوّن أساسي، لكنها ليست كافية وحدها، فهي أيضاً مكوّن أساسي للنثر. الشعر نعرفه من خلال نظامه البنائي الإيقاعي، وكل شاعر يختار نظامه، فليس هناك نظام محدد مسبقاً، لدى أي ديوان لشاعر عليّ وأنا في هذا العمر الشعري أن أدرس وأفهم ما هو النظام الداخلي لشعره المتحقق في قصيدته. في الحالة العربية هناك إسراف في الصور، وهذا جاء في المرحلة الوسطى بين الشعراء الرواد والشعراء الحاليين الذين تكلمنا عن حسناتهم ولم نتكلم عن بعض عيوبهم وأهمها الإسراف في تكديس الصور المجانية بدون أن يكون لهذه الصورة الشعرية وظيفة جمالية ولا منطق بنائي أيضاً. الصور المجانية تثقل القصيدة وترهقها ونخرج بلا معنى معها. الصورة يجب أن تكون لها وظيفة يحددها الشاعر أو تخضع لمتطلبات بناء القصيدة وشكلها، وإلا فالصورة السينمائية أرقى. الصورة جزء من مكوّنات عدة في بناء القصيدة وليست مكوّناً أساسياً.

    الإيقاع والفكر

    › هناك أمر أُهمل في القصيدة الحديثة، وأتصور أنه ينبغي أن نفكر بإعادة النظر فيه وهو الموضوع. هناك تصور يقول بأن القصيدة الحديثة بلا موضوع، وبفقدان الموضوع يصبح للقصيدة الحديثة موضوع واحد هو ذاتها، فالقصيدة تقول نفسها، وفي محل آخر تقول اللغة وتعيد قول نفسها.

    رأيي أن كلامنا السابق عن المعنى مرتبط بالموضوع، فغياب المعنى هو إحدى نتائج غياب الموضوع. أنا لا يهمني موضوع القصيدة، بل تهمني الكيفية التخييلية التي كُتب بها هذا الموضوع، لكن الموضوع هو جسد القصيدة. القصيدة بلا موضوع لا تكون هشة فقط بل مشغولة بالتحديق بنفسها.

    › هل كمّ التخييل إذن هو الذي يمكن أن يخلق الموضوع؟

    لا، بل الكيفية.

    هناك أيضاً شعر جميل مع أن القصيدة ليس لها موضوع لكن فيها جماليات وإيقاعات تنسيك أنها بلا موضوع، وحينها تكون شبيهة أكثر بالموسيقى التجريدية.

    › إذا تجاوزنا مسألة الموضوع، هل يمكن للكلام أن يكون متماسكاً إن لم يكن منطلقاً على الأقل من بؤرة واحدة، هناك شعر منتشر، هناك كلام فلكي، ترى أنه لا يملك نقاط ارتكاز أو بؤراً ينطلق منها، ألا يجعلنا ذلك في المكان ذاته؟

    نعم يبقينا في الموقع ذاته، وكما قلت فإنه يجعل القصيدة مشغولة بالتحديق بذاتها، بنرجسيتها، والقارئ يطلع منها لا أقول محايداً ولكن كأنه لم يكن فيها ولم يقرأها، لا هي اخترقته ولا اشترك هو في إعادة كتابتها. في الوقت نفسه أنا من التسامح بحيث لا مانع عندي أن يجرب البعض قصيدة لا موضوع لها إلا ذاتها. السؤال هو ما نتيجة هذا الجهد؟ لوحة تجريدية، قطعة موسيقية، هل يملك الشعر مقوّمات تجريدية حتى هذه الدرجة؟ أنا أشك، لأن الشعر يحتاج إلى ماء وتراب وعناصر هي التي تعطيه الحياة، ولا يستطيع أن يكون تجريدياً إلى هذا الحد لأن التجريد قد يوصل إلى حذف اللغة، وقد نصل حينها إلى ما يسمى <<شعر بياض>>. أنا أنحاز إلى موضوع، ومعنى، وبناء، وعناصر، تشكل قوام جسد شعري واضح، لكني لا أستطيع أن أرفض تجارب تسعى في منحى آخر. القصيدة منذ لحظة كتابتها الغامضة ذاهبة إلى مكان ما، وهناك فكر ما يقودها، قد تستقل عن هذا الفكر وتتمرد عليه وتأخذ فكراً آخر، لكن لا بد من أن تكون خاضعة لتصور مسبق عنها، بحيث لا تُترك حرة لتداعيات وثرثرات ومجانيات بلا نهاية لأن القصيدة فيها فكر ما، فكر شعر، يقودها، قد لا تنصاع له إلى حيث يريد، وهي قد تغير اتجاهه، لكن في البداية هناك بؤرة (كما سمّيتَها) يطلع منها إشعاع ما يحدد الاتجاه والتعديلات تحصل أثناء العملية. لا بد من خطة مسبقة، ليست عقلانية، عندي شيء أريد قوله وعندي إحساس أريد التعبير عنه، لست أكتب كتابة آلية، لست سريالياً، مع انه حتى السريالية والكتابة الآلية كانتا تقودان إلى شيء ما وليس إلى عبثية كاملة، والسريالية أثّرت في شعر غيرها أكثر مما أثرت في ذاتها. أما أن أمنح استقلالاً كاملاً للقلم والورقة ليشتغلا بدون تدخل مني، فأشك بأني سأصل بذلك إلى أي مكان.

    › في كتابتك لقصيدتك، هل تملك قبل الكتابة نقطة ما تنطلق منها؟

    يكون لدي تصور ما، حالة ما، فكرة ما، أو موضوع ما، لكن شكل ما سأكتبه لا يكون واضحاً لي. كما قلت لك. لديّ رقابة على حركة القصيدة، وفي كثير من المرات تستقل القصيدة بحركتها، وهذا أفضل. إذ تقودني القصيدة أحيانا إلى معنى لم يكن خاطراً في بالي مسبقاً.

    › لكن أليس للذاكرة دور هنا؟

    طبعاً للذاكرة واللاوعي دور، فلا شيء يأتي من بياض، والذي يكتب هو جسد وعقل، لكن كيف تأتي الصورة من زمن بعيد جداً، لا نستطيع التحكم بمعرفة هذه الكيفية. حين أكتب يكون عندي تصور إما غامض أو واضح بأني أريد أن أقول شيئاً، قد يفلت من يدي، عندما يكون المعنى واضحاً تماماً وتكون القصيدة مرتبة في ذهني تكون النتيجة أسوأ. اللغة واللاوعي وتداخل الأزمنة تنتج قصيدة أفضل من قصيدة مخطط لها سلفاً. إنما أنا عندي تخطيط، وخاصة في المطوّلات. خطة تخضع طبعاً كما قلنا لتعديلات أثناء العملية لكن لا أشرع مرة في الكتابة وأنا لا أعرف ما سأكتب. أكتب أحياناً استمراراً لحلم ما، عندي دائماً إلى جانب سريري ورقة وقلم، أحياناً أحلم أني أكتب شيئاً أعتبره رائعاً، أحلامي ساذجة جداً، لكني أبدأ بالكتابة عندما يتحول كل هذا الذي أهجس به إلى إيقاع، ولا أكتب قبل أن يصبح إيقاعاً. ليست الفكرة ولا الصورة هما ما يجعلانني أكتب. حين تأخذ الفكرة والصورة إيقاعهما أعرف أنني بت قادراً على أن اكتب.

  • #2
    [read]
    شكراا على الموضوع المفيد والرائع

    تحياتي الرائعة لك

    واصل ابداعاتك المستمرة
    [/read]

    تعليق


    • #3
      مشكووووووووورين على المرور الجميل

      تعليق

      المواضيع ذات الصلة

      تقليص

      المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
      أنشئ بواسطة HaMooooDi, 01-11-2024, 01:45 AM
      ردود 0
      21 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة HaMooooDi
      بواسطة HaMooooDi
       
      أنشئ بواسطة HaMooooDi, 10-28-2023, 12:20 AM
      ردود 0
      44 مشاهدات
      1 معجب
      آخر مشاركة HaMooooDi
      بواسطة HaMooooDi
       
      أنشئ بواسطة HaMooooDi, 10-14-2023, 09:51 PM
      ردود 0
      40 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة HaMooooDi
      بواسطة HaMooooDi
       
      أنشئ بواسطة HeaD Master, 12-26-2008, 08:20 PM
      ردود 30
      6,231 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة HeaD Master
      بواسطة HeaD Master
       
      أنشئ بواسطة HaMooooDi, 06-21-2008, 04:50 AM
      ردود 178
      14,065 مشاهدات
      0 معجبون
      آخر مشاركة HeaD Master
      بواسطة HeaD Master
       
      يعمل...
      X